إياك والعواء عند التثاؤب !!
قَالَ اِبْن بَطَّال إِضَافَة التَّثَاؤُب إِلَى الشَّيْطَان بِمَعْنَى إِضَافَة الرِّضَا وَالْإِرَادَة ، أَيْ أَنَّ الشَّيْطَان يُحِبّ أَنْ يَرَى الْإِنْسَان مُتَثَائِبًا لِأَنَّهَا حَالَة تَتَغَيَّر فِيهَا صُورَته فَيَضْحَك مِنْهُ .
لَا أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ الشَّيْطَان فَعَلَ التَّثَاؤُب . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كُلّ فِعْل مَكْرُوه نَسَبَهُ الشَّرْع إِلَى الشَّيْطَان لِأَنَّهُ وَاسِطَته ، وَأَنَّ كُلّ فِعْل حَسَن نَسَبَهُ الشَّرْع إِلَى الْمَلَك لِأَنَّهُ وَاسِطَته ، قَالَ : وَالتَّثَاؤُب مِنْ الِامْتِلَاء وَيَنْشَأ عَنْهُ التَّكَاسُل وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الشَّيْطَان ،
وَالْعُطَاس مِنْ تَقْلِيل الْغِذَاء وَيَنْشَأ عَنْهُ النَّشَاط وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَك . وَقَالَ النَّوَوِيّ : أُضِيفَ التَّثَاؤُب إِلَى الشَّيْطَان لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الشَّهَوَات إِذْ يَكُون عَنْ ثِقَل الْبَدَن وَاسْتِرْخَائِهِ وَامْتِلَائِهِ ، وَالْمُرَاد التَّحْذِير مِنْ السَّبَب الَّذِي يَتَوَلَّد مِنْهُ ذَلِكَ وَهُوَ التَّوَسُّع فِي الْمَأْكَل .
قَوْله : ( فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اِسْتَطَاعَ )
أَيْ يَأْخُذ فِي أَسْبَاب رَدِّهِ ، وَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ أَنَّهُ يَمْلِك دَفْعه لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ لَا يُرَدّ حَقِيقَة ، وَقِيلَ مَعْنَى إِذَا تَثَاءَبَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَثَاءَب ، وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ أَنْ يَكُون الْمَاضِي فِيهِ بِمَعْنَى الْمُضَارِع .
قَوْله : ( فَإِنَّ أَحَدكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَان )
فِي رِوَايَة اِبْن عَجْلَانَ " فَإِذَا قَالَ آهْ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَان " وَفِي حَدِيث أَبِي سَعِيد " فَإِنَّ الشَّيْطَان يَدْخُل " وَفِي لَفْظ لَهُ " إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدكُمْ فِي الصَّلَاة فَلْيَكْظِمْ مَا اِسْتَطَاعَ فَإِنَّ الشَّيْطَان يَدْخُل "
هَكَذَا قَيَّدَهُ بِحَالَةِ الصَّلَاة ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيق الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ " التَّثَاؤُب فِي الصَّلَاة مِنْ الشَّيْطَان فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اِسْتَطَاعَ "
وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن عَجْلَانَ عَنْ سَعِيد الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة نَحْوه ،
وَرَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه بْن سَعِيد الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ " إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدكُمْ فَلْيَضَعْ يَده عَلَى فِيهِ وَلَا يَعْوِي ، فَإِنَّ الشَّيْطَان يَضْحَك مِنْهُ "
قَالَ شَيْخنَا فِي شَرْح التِّرْمِذِيّ : أَكْثَر رِوَايَات الصَّحِيحَيْنِ فِيهَا إِطْلَاق التَّثَاؤُب ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى تَقْيِيده بِحَالَةِ الصَّلَاة فَيَحْتَمِل أَنْ يُحْمَل الْمُطْلَق عَلَى الْمُقَيَّد ، وَلِلشَّيْطَانِ غَرَض قَوِيّ فِي التَّشْوِيش عَلَى الْمُصَلِّي فِي صَلَاته ،
وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون كَرَاهَته فِي الصَّلَاة أَشَدَّ ، وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُكْرَه فِي غَيْر حَالَة الصَّلَاة .
وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ : إِنَّ الْمُطْلَق إِنَّمَا يُحْمَل عَلَى الْمُقَيَّد فِي الْأَمْر لَا فِي النَّهْي ، وَيُؤَيِّد كَرَاهَته مُطْلَقًا كَوْنه مِنْ الشَّيْطَان ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ النَّوَوِيّ ، قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : يَنْبَغِي كَظْم التَّثَاؤُب فِي كُلّ حَالَة ، وَإِنَّمَا خَصَّ الصَّلَاة لِأَنَّهَا أَوْلَى الْأَحْوَال بِدَفْعِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُوج عَنْ اِعْتِدَال الْهَيْئَة وَاعْوِجَاج الْخِلْقَة .
وَأَمَّا قَوْله فِي رِوَايَة أَبِي سَعِيد فِي اِبْن مَاجَهْ " وَلَا يَعْوِي " فَإِنَّهُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة ، شَبَّهَ التَّثَاؤُب الَّذِي يَسْتَرْسِل مَعَهُ بِعُوَاءِ الْكَلْب تَنْفِيرًا عَنْهُ وَاسْتِقْبَاحًا لَهُ فَإِنَّ الْكَلْب يَرْفَع رَأْسه وَيَفْتَح فَاهُ وَيَعْوِي ،
وَالْمُتَثَائِب إِذَا أَفْرَطَ فِي التَّثَاؤُب شَابَهَهُ . وَمِنْ هُنَا تَظْهَر النُّكْتَة فِي كَوْنه يَضْحَك مِنْهُ ، لِأَنَّهُ صَيَّرَهُ مَلْعَبَة لَهُ بِتَشْوِيهِ خَلْقه فِي تِلْكَ الْحَالَة . وَأَمَّا قَوْله فِي رِوَايَة مُسْلِم " فَإِنَّ الشَّيْطَان يَدْخُل " فَيَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِهِ الدُّخُول حَقِيقَة ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَان مَجْرَى الدَّم لَكِنَّهُ لَا يَتَمَكَّن مِنْهُ مَا دَامَ ذَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَالْمُتَثَائِب فِي تِلْكَ الْحَالَة غَيْر ذَاكِر فَيَتَمَكَّن الشَّيْطَان مِنْ الدُّخُول فِيهِ حَقِيقَة .
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَطْلَقَ الدُّخُول وَأَرَادَ التَّمَكُّن مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْن مَنْ دَخَلَ فِي شَيْء أَنْ يَكُون مُتَمَكِّنًا مِنْهُ . وَأَمَّا الْأَمْر بِوَضْعِ الْيَد عَلَى الْفَم فَيَتَنَاوَل مَا إِذَا اِنْفَتَحَ بِالتَّثَاؤُبِ فَيُغَطَّى بِالْكَفِّ وَنَحْوه وَمَا إِذَا كَانَ مُنْطَبِقًا حِفْظًا لَهُ عَنْ الِانْفِتَاح بِسَبَبِ ذَلِكَ .
وَفِي مَعْنَى وَضْع الْيَد عَلَى الْفَم وَضْع الثَّوْب وَنَحْوه مِمَّا يَحْصُل ذَلِكَ الْمَقْصُود ، وَإِنَّمَا تَتَعَيَّن الْيَد إِذَا لَمْ يَرْتَدّ التَّثَاؤُب بِدُونِهَا ، وَلَا فَرْق فِي هَذَا الْأَمْر بَيْنَ الْمُصَلِّي وَغَيْره ،
بَلْ يَتَأَكَّد فِي حَال الصَّلَاة كَمَا تَقَدَّمَ وَيُسْتَثْنَى ذَلِكَ مِنْ النَّهْي عَنْ وَضْع الْمُصَلِّي يَده عَلَى فَمه . وَمِمَّا يُؤْمَر بِهِ الْمُتَثَائِب إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاة أَنْ يُمْسِك عَنْ الْقِرَاءَة حَتَّى يَذْهَب عَنْهُ لِئَلَّا يَتَغَيَّر نَظْم قِرَاءَته ، وَأَسْنَدَ اِبْن أَبِي شَيْبَة نَحْو ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَالتَّابِعِينَ الْمَشْهُورِينَ ، وَمَنْ الْخَصَائِص النَّبَوِيَّة مَا أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة وَالْبُخَارِيّ فِي " التَّارِيخ " مِنْ مُرْسَل يَزِيد بْن الْأَصَمّ قَالَ " مَا تَثَاءَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ " وَأَخْرَجَ الْخَطَّابِيُّ مِنْ طَرِيق مَسْلَمَةَ بْن عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان قَالَ " مَا تَثَاءَبَ نَبِيّ قَطُّ " وَمَسْلَمَة أَدْرَكَ بَعْض الصَّحَابَة وَهُوَ صَدُوق .
وَيُؤَيِّد ذَلِكَ مَا ثَبَتَ أَنَّ التَّثَاؤُب مِنْ الشَّيْطَان . وَوَقَعَ فِي " الشِّفَاء لِابْنِ سَبْع " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَمَطَّى ، لِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَان ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فتح الباري للحافظ ابن حجر
(17-442)
قَالَ اِبْن بَطَّال إِضَافَة التَّثَاؤُب إِلَى الشَّيْطَان بِمَعْنَى إِضَافَة الرِّضَا وَالْإِرَادَة ، أَيْ أَنَّ الشَّيْطَان يُحِبّ أَنْ يَرَى الْإِنْسَان مُتَثَائِبًا لِأَنَّهَا حَالَة تَتَغَيَّر فِيهَا صُورَته فَيَضْحَك مِنْهُ .
لَا أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ الشَّيْطَان فَعَلَ التَّثَاؤُب . وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كُلّ فِعْل مَكْرُوه نَسَبَهُ الشَّرْع إِلَى الشَّيْطَان لِأَنَّهُ وَاسِطَته ، وَأَنَّ كُلّ فِعْل حَسَن نَسَبَهُ الشَّرْع إِلَى الْمَلَك لِأَنَّهُ وَاسِطَته ، قَالَ : وَالتَّثَاؤُب مِنْ الِامْتِلَاء وَيَنْشَأ عَنْهُ التَّكَاسُل وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الشَّيْطَان ،
وَالْعُطَاس مِنْ تَقْلِيل الْغِذَاء وَيَنْشَأ عَنْهُ النَّشَاط وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَك . وَقَالَ النَّوَوِيّ : أُضِيفَ التَّثَاؤُب إِلَى الشَّيْطَان لِأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الشَّهَوَات إِذْ يَكُون عَنْ ثِقَل الْبَدَن وَاسْتِرْخَائِهِ وَامْتِلَائِهِ ، وَالْمُرَاد التَّحْذِير مِنْ السَّبَب الَّذِي يَتَوَلَّد مِنْهُ ذَلِكَ وَهُوَ التَّوَسُّع فِي الْمَأْكَل .
قَوْله : ( فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اِسْتَطَاعَ )
أَيْ يَأْخُذ فِي أَسْبَاب رَدِّهِ ، وَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ أَنَّهُ يَمْلِك دَفْعه لِأَنَّ الَّذِي وَقَعَ لَا يُرَدّ حَقِيقَة ، وَقِيلَ مَعْنَى إِذَا تَثَاءَبَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَثَاءَب ، وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ أَنْ يَكُون الْمَاضِي فِيهِ بِمَعْنَى الْمُضَارِع .
قَوْله : ( فَإِنَّ أَحَدكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَان )
فِي رِوَايَة اِبْن عَجْلَانَ " فَإِذَا قَالَ آهْ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَان " وَفِي حَدِيث أَبِي سَعِيد " فَإِنَّ الشَّيْطَان يَدْخُل " وَفِي لَفْظ لَهُ " إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدكُمْ فِي الصَّلَاة فَلْيَكْظِمْ مَا اِسْتَطَاعَ فَإِنَّ الشَّيْطَان يَدْخُل "
هَكَذَا قَيَّدَهُ بِحَالَةِ الصَّلَاة ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيق الْعَلَاء بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِلَفْظِ " التَّثَاؤُب فِي الصَّلَاة مِنْ الشَّيْطَان فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اِسْتَطَاعَ "
وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن عَجْلَانَ عَنْ سَعِيد الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة نَحْوه ،
وَرَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ مِنْ طَرِيق عَبْد اللَّه بْن سَعِيد الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ بِلَفْظِ " إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدكُمْ فَلْيَضَعْ يَده عَلَى فِيهِ وَلَا يَعْوِي ، فَإِنَّ الشَّيْطَان يَضْحَك مِنْهُ "
قَالَ شَيْخنَا فِي شَرْح التِّرْمِذِيّ : أَكْثَر رِوَايَات الصَّحِيحَيْنِ فِيهَا إِطْلَاق التَّثَاؤُب ، وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى تَقْيِيده بِحَالَةِ الصَّلَاة فَيَحْتَمِل أَنْ يُحْمَل الْمُطْلَق عَلَى الْمُقَيَّد ، وَلِلشَّيْطَانِ غَرَض قَوِيّ فِي التَّشْوِيش عَلَى الْمُصَلِّي فِي صَلَاته ،
وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون كَرَاهَته فِي الصَّلَاة أَشَدَّ ، وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُكْرَه فِي غَيْر حَالَة الصَّلَاة .
وَقَدْ قَالَ بَعْضهمْ : إِنَّ الْمُطْلَق إِنَّمَا يُحْمَل عَلَى الْمُقَيَّد فِي الْأَمْر لَا فِي النَّهْي ، وَيُؤَيِّد كَرَاهَته مُطْلَقًا كَوْنه مِنْ الشَّيْطَان ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ النَّوَوِيّ ، قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : يَنْبَغِي كَظْم التَّثَاؤُب فِي كُلّ حَالَة ، وَإِنَّمَا خَصَّ الصَّلَاة لِأَنَّهَا أَوْلَى الْأَحْوَال بِدَفْعِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُوج عَنْ اِعْتِدَال الْهَيْئَة وَاعْوِجَاج الْخِلْقَة .
وَأَمَّا قَوْله فِي رِوَايَة أَبِي سَعِيد فِي اِبْن مَاجَهْ " وَلَا يَعْوِي " فَإِنَّهُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة ، شَبَّهَ التَّثَاؤُب الَّذِي يَسْتَرْسِل مَعَهُ بِعُوَاءِ الْكَلْب تَنْفِيرًا عَنْهُ وَاسْتِقْبَاحًا لَهُ فَإِنَّ الْكَلْب يَرْفَع رَأْسه وَيَفْتَح فَاهُ وَيَعْوِي ،
وَالْمُتَثَائِب إِذَا أَفْرَطَ فِي التَّثَاؤُب شَابَهَهُ . وَمِنْ هُنَا تَظْهَر النُّكْتَة فِي كَوْنه يَضْحَك مِنْهُ ، لِأَنَّهُ صَيَّرَهُ مَلْعَبَة لَهُ بِتَشْوِيهِ خَلْقه فِي تِلْكَ الْحَالَة . وَأَمَّا قَوْله فِي رِوَايَة مُسْلِم " فَإِنَّ الشَّيْطَان يَدْخُل " فَيَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِهِ الدُّخُول حَقِيقَة ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَان مَجْرَى الدَّم لَكِنَّهُ لَا يَتَمَكَّن مِنْهُ مَا دَامَ ذَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَالْمُتَثَائِب فِي تِلْكَ الْحَالَة غَيْر ذَاكِر فَيَتَمَكَّن الشَّيْطَان مِنْ الدُّخُول فِيهِ حَقِيقَة .
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَطْلَقَ الدُّخُول وَأَرَادَ التَّمَكُّن مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْن مَنْ دَخَلَ فِي شَيْء أَنْ يَكُون مُتَمَكِّنًا مِنْهُ . وَأَمَّا الْأَمْر بِوَضْعِ الْيَد عَلَى الْفَم فَيَتَنَاوَل مَا إِذَا اِنْفَتَحَ بِالتَّثَاؤُبِ فَيُغَطَّى بِالْكَفِّ وَنَحْوه وَمَا إِذَا كَانَ مُنْطَبِقًا حِفْظًا لَهُ عَنْ الِانْفِتَاح بِسَبَبِ ذَلِكَ .
وَفِي مَعْنَى وَضْع الْيَد عَلَى الْفَم وَضْع الثَّوْب وَنَحْوه مِمَّا يَحْصُل ذَلِكَ الْمَقْصُود ، وَإِنَّمَا تَتَعَيَّن الْيَد إِذَا لَمْ يَرْتَدّ التَّثَاؤُب بِدُونِهَا ، وَلَا فَرْق فِي هَذَا الْأَمْر بَيْنَ الْمُصَلِّي وَغَيْره ،
بَلْ يَتَأَكَّد فِي حَال الصَّلَاة كَمَا تَقَدَّمَ وَيُسْتَثْنَى ذَلِكَ مِنْ النَّهْي عَنْ وَضْع الْمُصَلِّي يَده عَلَى فَمه . وَمِمَّا يُؤْمَر بِهِ الْمُتَثَائِب إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاة أَنْ يُمْسِك عَنْ الْقِرَاءَة حَتَّى يَذْهَب عَنْهُ لِئَلَّا يَتَغَيَّر نَظْم قِرَاءَته ، وَأَسْنَدَ اِبْن أَبِي شَيْبَة نَحْو ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَالتَّابِعِينَ الْمَشْهُورِينَ ، وَمَنْ الْخَصَائِص النَّبَوِيَّة مَا أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة وَالْبُخَارِيّ فِي " التَّارِيخ " مِنْ مُرْسَل يَزِيد بْن الْأَصَمّ قَالَ " مَا تَثَاءَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ " وَأَخْرَجَ الْخَطَّابِيُّ مِنْ طَرِيق مَسْلَمَةَ بْن عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان قَالَ " مَا تَثَاءَبَ نَبِيّ قَطُّ " وَمَسْلَمَة أَدْرَكَ بَعْض الصَّحَابَة وَهُوَ صَدُوق .
وَيُؤَيِّد ذَلِكَ مَا ثَبَتَ أَنَّ التَّثَاؤُب مِنْ الشَّيْطَان . وَوَقَعَ فِي " الشِّفَاء لِابْنِ سَبْع " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَتَمَطَّى ، لِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَان ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فتح الباري للحافظ ابن حجر
(17-442)