في الصباح الباكر جفل السيد/ حرارة / من نومه على أصوات غريبة داهمته في فراشه، وعندما نط إلى الباب رأى فوجاً هائلاً من الذباب يملأ الحوش وفي أثناء فتحه الباب امتلأت الغرفة بهذه الكائنات التي أخذت تطير في أجواء الغرفة وتحط على الجدران وما تحويه من الغرفة. وقبل أن يصيح جاء صوت زوجته المذعور: حرارة.. قم يا حرارة الدبان أكلنا كأنه نزل من السما على بيتنا.
كان الصوت قادماً من غرفة نوم الأولاد، فاتجه يطرق الباب ليرى الأولاد وأمهم في حالة ذعر من هذا الغزو الغريب وعلى الفور أمر زوجته بالخروج والذهاب إلى بيوت الجيران لترى إن كانت هذه الظاهرة عامة أم اقتصرت على بيتهم.
في هذا الوقت الباكر تقلب السيد/زهر الحياة/ في فراشه واستيقظ هو الآخر على أصوات غريبة في بيته المجاور لبيت السيد/حرارة/، فتح الباب ورأى فوجاً هائلاً من النحل يملأ الحوش عندها قالت زوجته: النحل هجم على بيتنا دفعة واحدة.. يا رب سترك.. اجعله نحل خير.. كأنه نزل من السما على بيتنا.
اندهش/زهر الحياة/ لهذه الظاهرة الغريبة التي يراها لأول مرة في حياته، فطنين النحل يصم الأسماع، ووجوده بهذا الشكل يشل الحركة في البيت، لكنه قال مطمئناً أولاده وزوجته: يكون نحل ضايع حط في بيتنا ليرتاح ويرجع يطير.
وبعث زوجته لترى إن كان النحل قد حط في بيوت الجيران أيضاً. التقت الزوجتان في الشارع فقالت زوجة/حرارة/ لجارتها: الدبان أكلنا.. من شوي هجم على بيتنا والعجيب ما في دبانة واحدة عند الجيران.. سألت كل البيوت، وأنا بطريقي حتى أدق بابكم لأسأل إن كان هجم عليكم دبان مثلنا. عضت زوجة/زهر الحياة/ شفتها قائلة : يعني دبان.. دبان..؟!0 أجابت زوجة/حرارة/ وهي تبحلق في عضتها لشفتها: إي والله.. دبان..دبان!
قالت: تعالي شوفي اللي حط في بيتنا.
فرأت زوجة/حرارة/ فوج النحل الهائل في بيت جارتها، وهرولت مسرعة قائلة لزوجها: عند الجيران ما في ولا دبانة واحدة.. بس العجيب بيت جارنا/زهر الحياة/ مليان نحل.. حط من شوي.. وقت ما حط عندنا الدبان.
لدى سماع هذا الكلام نفر/حرارة/ وقال بغيظ: يعني هو أحسن مني حتى يجيه نحل وأنا يجيني دبان.
بعد قليل خرج الجاران إلى أعمالهما وكالعادة التقيا في الشارع، تقدم/زهر الحياة/ يسلم على جاره ويتحدث معه عن هذا الذي حل عليهما، لكن/حرارة/ ولأول مرة أدار ظهره ولم يجب على سلام جاره فاحمرت وجنتا/زهر الحياة/ واعتراه خجل كبير مما بدر من جاره وهو يمضى إلى عمله محاولاً تناسي ذلك.
مضت أيام ولم يهجر النحل بيت/زهر الحياة/ فاستعان بأحد المربين من ذوي الخبرة وخصص ركناً من بيته للنحل، وأخبره المربي بأن الخير حل عليه وأن العسل سيحسن من وضعه المالي لأن النحل يدر على صاحبه ذهباً 0
من جانبه استطاع/حرارة/ أن يقابل رئيس البلدية ويقنعه بتشكيل لجنة مهمتها القضاء على الذباب في بيته بعد أن حمل مسؤولية انتشار الذباب للبلدية وقال بأنها لم تقم بواجبها في بخ المبيدات مما جعل الذباب يغزو بيته.
حضر رئيس البلدية بنفسه مع لجنة كشف خاصة على البيت، رأى بعينه فوج الذباب الهائل الذي يحط في البيت دون غيره من البيوت، فأمر بإحضار صهريج على الفور لرش البيت بالمبيدات والسموم القاتلة للحشرات. ولكن هذه الظاهرة ازدادت غرابة عندما بدأ الذباب وكأنه يسبح وينتعش بين الدخان الكثيف الذي يشبه الغيوم، وبعد انتهاء هذا الدخان دب نشاط عجيب في الذباب وبدأ يطن بصوت أعلى. أمام هذا الواقع اقترح رئيس البلدية على مداومة البخ لمدة ثلاثة أيام متلاحقة، وعندها لن يصمد الذباب أمام هذه السموم المتواصلة. وأمر اللجنة أن تواظب على هذه المهمة بشكل يومي، في اليوم ثلاث مرات: صباحاً.. ظهراً.. مساءً.
بدأت هذه اللجنة في تنفيذ أمر رئيس البلدية فتملأ بيت السيد/حرارة/ بالدخان القاتل للذباب لمدة ساعتين كل مرة. تحول الحي كله إلى روائح غازات كريهة حتى تشربت الجدران والآثاث والأبواب والنوافذ، وفي صبيحة اليوم الثالث اضطرت اللجنة إلى التوقف عن مهمتها عندما تعالت أصوات سيارات الإسعاف في الحي وعرفت هذه اللجنة أن الدخان المتواصل تسبب في حالات تسمم لبعض السكان، فقد أُجهضت امرأة حامل كانت في شهرها الرابع، وتسمم طفلان صغيران بسبب عدم احتمال الروائح المتواصلة، وتوفي عجوز كان في الثمانين من عمره، بالإضافة إلى حالات إغماء لآخرين. وما أذهل الجميع أن ذبابة واحدة لم تصب بأذى. لم يسكت الأهالي عن تصرف رئيس البلدية الذي ألحق بهم كل هذا الضرر فتقدموا بشكواهم إلى وزير الداخلية يحمّلون رئيس بلديتهم مسؤولية موت عجوز وإجهاض امرأة وتسمم طفلين نتيجة قرار طائش لم يفد بشيء. وبالفعل صدر قرار بفصل رئيس البلدية من منصبه وذلك لتهدئة السكان، وتم تعويض المتضررين بمبالغ مالية أتت إليهم من وزارة الداخلية. أمام هذه الأحداث لزم/حرارة/ الصمت ورضي بالأمر الواقع بالعيش مع الذباب، وبين يوم وآخر يتواجد في مكاتب بيع وتأجير البيوت عارضاً بيته للبيع أو الإيجار، لكن كل هذه المحاولات تبوء بالفشل عند مشاهدة الشاري أو المستأجر لهذا الفوج الهائل من الذباب الذي يصم الأسماع بطنينه حتى ذاع صيت هذا البيت في المدينة كلها وتسرب الخبر إلى بقية المحافظات عندما نشرت صحيفة محلية تحقيقاً موسعاً على حلقتين كتبه مراسلها في هذه المدينة تحت عنوان رئيسي مثير:
"قصة الذباب الذي تسبب في فصل رئيس البلدية"
وعنوان فرعي:"هذا كل شيء عن الذباب الذي يغزو بيوت أحد المواطنين ويقاوم كل أنواع المبيدات".
أمام هذا بدا النعيم يحل على جاره المجاور/زهر الحياة/ الذي بدأ في بيع العسل، وذاع صيته بشكل عجيب في المدينة خاصة عندما زاره أحد الفقهاء وأهداه/زهر الحياة/ علبة من العسل، فقال هذا الفقيه في إحدى المجالس الكبرى بأن الله أرسل نحلاً من الجنة إلى/زهر الحياة/ وتفوح رائحة عسل الجنة من عسله.
هذا الإعلان الذي صدر ربما بشكل عفوي من الفقيه أقام المدينة ولم يقعدها على بيت زهر الحياة، وبدأت أفواج هائلة من الناس تدخل الحي وتقدم القرابين والهدايا حتى للجوار. فمنهم من يذبح هذه القرابين أمام باب/زهر الحياة/ المغلق ويوزع لحمها على الجوار و/زهر الحياة/ لم يعد قادراً عل استقبال كل هؤلاء فيكتفي بإغلاق بابه وقد وضع لافتة صغيرة على الباب كتب عليها:"اعذروني أنا غير قادر على استقبالكم..رجاء عدم المؤاخذة".
هذا الإعلان لم يخفف من الازدحام في الحي فالناس يأتون ويقولون بأنهم يشتمون رائحة الجنة الطيبة من هذا البيت المبارك، ويأتون بالمرضى والمعتوهين والمشلولين والرجال والنساء العواقر ليشتمّوا طيب ريح الجنة ويتبركوا بلمس جدار بيت نحل الجنة، وهذا أدى إلى انتعاش اقتصادي لسكان الحي الذين بدأوا في بيع المسابيح، وصور البيت، والعطور، والكاسات، والصحون، والقبعات البيضاء، ومناظر تحتوي على صور لـ/زهر الحياة/ وأولاده، وأركان بيته، وخلية النحل، ونحل يطير، ونحل يتشمس، وعسل، وأبواب البيت، ونوافذه، وآثاثه.
وهذه المناظر على شكل كاميرات صغيرة تتقلب الصور منها أمام عيني الناظر بالضغط على زر صغير. أمّا من لا يملك قيمة شراء منظار فيمكنه النظر بقليل من المال. وبدأ وجهاء المدينة وكبار الأثرياء فيها يتوددون ويترددون على/زهر الحياة/ للحصول على العسل الطازج الذي أصبح الوجهاء الأثرياء يتبارون للحصول عليه.. إلى جانب ذلك تبرع أحد الأطباء بقول أن هذا العسل يحتوي على موادغذائية غير متوفرة في العسل الشائع وأيد هذا الكلام بعض أصحاب الخبرة والاختصاص في شؤون النحل والعسل، حتى أن أحد الأثرياء الكبار عرض مبلغاً خيالياً لشراء البيت و إيجاره، لكن/زهر الحياة/ رفض عرضه وشكر بادرته وكرد على ذلك وعده بالعسل وقتما يشاء.
في ليلة ممطرة من ليالي الشتاء قفز/حرارة/ على حائط جاره/زهر الحياة/ ومعه علبة من المبيدات.. تقدم من خلية النحل وبخ ما في العلبة من سموم على النحل، عند ذاك تسربت رائحة السموم إلى/زهر الحياة/ وأيقظته من نومه، فهرع ينظر في الحوش بعد أن أشعل الأضواء واستطاع أن يرى قامة جاره/حرارة/ تنقلب إلى الجهة الأخرى. هرع إلى خلية النحل، داهمته رائحة السموم.. عاد إلى الداخل والقلق يسيطر عليه خوفاً من موت النحل بعد تأكده بأن/حرارة/ قد أفرغ السموم في الخلية. هذا القلق لازمه أسبوعاً كاملاً حتى اطمئن بأن النحل لم يصب بأذى. عندها أعلم زوجته وأولاده بالحادث وطلب إليهم أن يأخذوا الحيطة والحذر من جارهم الذي يريد القضاء على هذا النحل الذي نجا من السم بأعجوبة. وهذا أدى إلى أن يتناوب الأولاد في حراسة البيت ليلاً ففي كل ليلة يتولى أحدهم هذه المهمة. لدى معرفة/حرارة/ بأمر الحراسة أرسل تهديداً إلى جاره/زهر الحياة/ عن طريق أحد الجوار يتهمه فيه بالتسبب في حل كارثة الذباب عليه، لأن وجود الذباب يقترن بوجود النحل.. والذباب يحل حيثما حل النحل، والدليل أنهما حضرا وقت واحد وساعة واحدة: حط النحل في بيت زهر من هون، وحط الدبان في بيتي من هون.. الدبان كان يلاحق النحل..يعني هو دبان نحل.. مدمن على ريحة النحل.. يكون مكان ما يكون النحل ومن ريحة عسل النحل يعيش، أنا خرب بيتي وهو عمر بيته.. وفوق هذا , الفقيه يقول بأنه نحل الجنة ودباني دبان النار، ويقول للناس: النحل يحط على الورد والدبان يحط عالـ… يعني فوق ما أنا ساكت على مصيبتي يشهرون فيني، الدبان أكلني وأكل أولادي.. حرمنا من النوم، هذا بيتنا الوحيد وين بدنا نتشرد..سنة ونحنا نتحمل.. بس ما عاد فينا نتحمل بدنا ننفجر، وزهر أفندي اللي هو سبب مصيبتنا مبسوط على هالحال.
وقال/زهر الحياة/ لهذا الجار الوسيط طالباً منه أن ينقل هذا الكلام لجاره/حرارة/: يا أخي مثلما الدبان عصى في بيته، عصى النحل في بيتي.. أنا ما كان عندي علم لا بالدبان ولا بالنحل، يعني أنا لو بعت البيت يبقى النحل فيه حتى لو سكنه غيري، الحل مو عندي أبداً.. القصة أكبر من قدرتي، أنا ماني عدوه مثلما يتوهم.. أنا جاره وأنا ساكت على طنين دبانه لأني أقرب بيت له.. هذا عدا إنه يسبني ويسمعني صوته. من كم يوم هجم على بيتي بالليل ورش السموم على النحل وما اشتكيت عليه قدّرت ظروفه.. نحن نتقي شره وأولادي يسهرون الليل يحرسون النحل من شره، يريد أن أحرق بيتي حتى يطفش النحل ويلحق الدبان.. يعني هذا كلام واحد يريد الخير وهو يريدني أنام مع أولادي في الشارع ويقطع رزقي من بيع العسل حتى يرتاح، طيب يوجه هذا الكلام لنفسه ويحرق بيته حتى يطفش الدبان وأنا موافق يطفش النحل, أنا ما أمنعه يتصرف في بيته.
عندما نقل هذا الجار الوسيط الكلام على لسان/زهر الحياة/ للسيد/حرارة/ قال: الدبان هو اللي يلحق النحل، وين ما يحط النحل يبقى الدبان يحوم حواليه، هدم بيتي ما يفيد بشي.. الحل أن يهدم زهر بيته، أو يشعل فيه النار حتى يهرب النحل ويلحقه الدبان.
وقال بأنه إن لم يحرق بيته فسيكون عدواً له وعندها لن يدع أي فرصة لقتله وهو خيار وحيد بين طرد النحل أو الموت.
وأمام هذا الواقع اضطر السيد/زهر الحياة/ إلى تقديم ادعاء شخصي على جاره يتهمه فيه التهديد بالقتل، فزاد هذا الادعاء من حدة/حرارة/ واعتبره عدواناً جديداً عليه من قبل جاره/زهر الحياة/.
وأمام إصراره على التهديد تم توقيفه من قبل النيابة لمدة ثلاثة شهور. بعدها سحب تهديده وقال بأنه كان في حالة غضب وقد عاد إلى رشده الآن. بالمقابل حضر السيد/زهر الحياة/ ولدى سماع هذا الاعتذار تنازل هو الآخر عن ادعائه الشخصي وتصالحا أمام النيابة وخرجا معاً. عرض عليه / زهر الحياة / عزيمة على الغداء بمناسبة الصلح،وقال بأنه سيعطيه علبة عسل بشكل شهري مجاناً , لكن/ حرارة / ضحك وقال بأنه تحايل على القضاء بهذا الصلح ليتم إخلاء سبيله ويتمكن من تنفيذ تهديده، ومن ثم يعود إلى السجن منتصراً، لأن السجن بالنسبة له أفضل من بيت الذباب ذاك.
وقال/زهر الحياة/ بأن الموت أفضل له من التخلي عن النحل وانه سيزيد الرعاية والحرص.
قال/ حرارة /: بس بدي أقضي عليك قبل ما يقضي علي القهر ولما أتخلص منك أمضي أحسن سنوات عمري في السجن.
قال/ زهر الحياة / بإصرار: بدي أرعى النحل حتى آخر لحظة من عمري وإذا عملتها بي.. أولادي يرعون نحلي يعني يبقى النحل يتنفس في بيتي.