[center]تعجيل المنفعة بتحريم الغناء والمعازف عند الأئمة الأربعة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... وبعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وأبان
لهم عاقبة الطاعة وأوضح لهم سبيلها، وحذرهم من المعصية ومآل أمرها، وقد علم
إبليس- عليه لعنة الله- أن مدار الأمر على القلب، فإن صح واستقام استقامت
الأعضاء على طاعة ربها، وإن اعوج وزاغ زاغت الأعضاء إلى طريق الردى، فالقلب
ملك، والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإن خبث الملك خبثت
جنوده.
واعلم رحمني الله وإياك أن مما عمت به البلوى
وأشد ما ابتليت به القلوب هو حب الغناء والموسيقى، فصار عند كثير من الناس
استماع الأغاني أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من
أوله إلى آخره لما حرك له ساكنًا، حتى إذا تليت عليه الأغاني وقرعت نغماتها
الأسماع اهتز لها القلب واضطرب، فسبحان الله من هذا المفتون الذي أضاع حظه
من القرب من الله ورضي بنصيبه من إغواء الشيطان.
وهذه الكلمات هي صيحة إنذار ونصيحة مشفق نطوف فيها معًا ننظر في الكتاب والسنة طريق الهدى وسبيل الرشاد.
ثم ننظر أقوال أهل العلم في هذا الغناء الذي هو مزمار الشيطان.
قال تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) {لقمان: 6}.
قال العلامة ابن كثير في تفسيره لهذه الآية:
يذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على
استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب كما قال ابن مسعود في قوله
تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله قال: هو الغناء
والله الذي لا إله إلا هو. يرددها ثلاث مرات.
ونقل العلامة ابن كثير أيضًا قول الحسن البصري نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير. اه.
وكذلك قوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) {الإسراء: 64}.
قال ابن كثير: قال مجاهد: باللهو والغناء، وقال القرطبي: عن ابن عباس ومجاهد: الغناء والمزامير واللهو. وقال الضحاك: صوت المزمار.
وأما السنة فقد جاء في صحيح البخاري معلقًا بصيغة الجزم أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحِرَ والحرير والخمر
والمعازف". وهو يدل دلالة واضحة على تحريم آلات العزف والطرب وذلك من وجوه:
1- قوله يستحلون، فإنه صريح بأن المذكورات ومنها المعازف هي في الشرع محرمة فيستحلها أولئك القوم.
2- قرن المعازف مع المقطوع بحرمته الزنى
والخمر ولو لم تكن محرمة ما قرنها معها، وصدق رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم فيما قاله، فقد استدار الزمان وأصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرًا،
واستحسن الناس ما حرم الله ورسوله وأنكروا على من عاب ذلك.
وروى ابن ماجه والطبراني عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ". قيل: يا رسول الله، متي؟ قال:" إذا
ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمر". صححه الألباني في السلسلة الصحيحة
(1787).
والمعازف: هي آلات اللهو المحرمة، والقينات: جمع قينة وهي المغنية.
أما الأئمة الأربعة فأقوالهم في ذلك معروفة، لكل من نظر في كتبهم وطالع كلامهم.
قال أبو حنيفة رحمه الله: الغناء حرام وهو من
الذنوب، بل صرح أصحابه بتحريم الملاهي- آلات اللهو- كلها، وصرحوا بأنه
معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع-
الغناء- فسق والتلذذ به كفر.
وأما الإمام مالك رحمه الله: فقد سُئل عما
يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق، وقال: إذا
اشترى رجل جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب.
وأما الشافعي رحمه الله: فقد صرح أصحابه
العارفون بمذهبه بتحريمه بل تواتر عنه أنه قال: خَلَّفتَ ببغداد شيئًا
أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن، والتغبير هو شعر
يزهد في الدنيا يغني به أحد المغنين على نغمة ضرب على طبلة ونحوها. فسبحان
الله كيف يصرح الشافعي بأن من يفعل هذا هو زنديق، فكيف لو سمع غناء اليوم
الذي سعى به أولياء الشيطان حتى أسمعوه الناس رضوا أم أبوا، وكيف لو سمع
الشافعي ما أحدثه بعض من ينتسبون إلى مذهبه اليوم وهم يقولون بجواز استماع
الغناء وعدم تحريمه وأنه شِعرٌ حسنه حسن وقبيحه قبيح يلبسون على الناس أمور
دينهم وكأنهم أتوا من كوكب آخر ولم يعرفوا الغناء الموجود اليوم.
قال الشافعي رحمه الله: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته. وقال في ذلك قول عظيمًا. فقال: هي دياثة.
وأما الإمام أحمد رحمه الله: فقد قال ابنه عبد
الله: سألت أبي عن الغناء فقال: الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني،
ثم ذكر قول الإمام مالك إنما يفعله عندنا الفساق.
فهاهم الأئمة الأربعة أئمة العلم قد اتفقوا على تحريم الغناء وصرحوا بذلك،
بل قد نقل غير واحد من علماء المسلمين الإجماع على ذلك، ورحم الله ابن
القيم إذ يقول في الغناء: فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من
علماء المسلمين، ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل
ما فيه أنه من شعار الفساق وشاربي الخمر. اه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اعلم
أنه لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة الأولى ولا بالشام ولا اليمن ولا
بمصر والمغرب والعراق وخراسان، من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من
يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية ولا بدف ولا بكف ولا بقضيب وإنما كان
هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية فلما رآه الأئمة أنكروه. اه.
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة
(1-139): ولا تغتر أيها القارئ الكريم بما قد تسمع عن بعض المشهورين اليوم
من المتفقهة من القول بإباحة آلات الطرب والموسيقى فإنهم- والله- عن تقليد
يفتون، ولهوى الناس اليوم ينصرون، ومن يقلدون؟ إنما يقلدون ابن حزم الذي
أخطأ فأباح آلات الطرب والملاهي، لأن حديث أبي مالك الأشعري لم يصح عنده،
وقد عرفت أنه صحيح قطعًا، وليت شعري ما الذي حملهم على تقليده هنا دون
الأئمة الأربعة، مع أنهم أفقه منه وأعلم وأكثر عددًا وأقوى حجة.
لو كان الحامل لهم (أي هؤلاء المفتون المشهورون) على ذلك إنما هو التحقيق
العلمي فليس لأحد عليهم من سبيل، ومعنى التحقيق العلمي كما لا يخفى أن
يتتبعوا الأحاديث كلها الواردة في هذا الباب ويدرسوا طرقها ورجالها ثم
يحكموا عليها بما تستحق من صحة أو ضعف، ثم إذا صح عندهم شيء منها درسوها من
ناحية دلالتها وفقهها وعامها وخاصها، وذلك كله حسبما تقتضيه قواعد علم
أصول الحديث وأصول الفقه، لو فعلوا ذلك لم يستطع أحد انتقادهم ولكانوا
مأجورين، ولكنهم والله- لا يصنعون شيئًا من ذلك، ولكنهم إذا عرضت لهم مسألة
نظروا في أقوال العلماء فيها، ثم أخذوا ما هو الأيسر أو الأقرب إلى تحقيق
المصلحة زعموا، دون أن ينظروا موافقة ذلك للدليل من الكتاب والسنة، وكم
شرعوا للناس- بهذه الطريقة- أمورًا باسم الشريعة الإسلامية، يبرأ الإسلام
منها- وإلى الله المشتكى.
فاحرص أيها المسلم على أن تعرف إسلامك من كتاب ربك وسنة نبيك ولا تقل قال
فلان فإن الحق لا يعرف بالرجال بل اعرف الحق تعرف الرجال. اه.
وقال الألباني أيضًا: ( ردًا على قول من قال
ولا بأس بأن يصحب الغناء الموسيقى غير المثيرة). وقال القيد نظري غير عملي
ولا يمكن ضبطه لأن ما يثير الغريزة يختلف باختلاف الأمزجة ذكورة وأنوثة،
شيخوخة وفتوة، وحرارة وبرودة كما لا يخفى على اللبيب. اه {تحريم الطرب ص7}.
فها هي أقوال الأئمة ناطقة بالحق ناصحة لعباد الله، ولو تأمل متأمل في هذا
الغناء الذي قرع أسماعهم فنطقوا فيه بهذا المقال وقسته على غناء اليوم
لعلمت علم اليقين حكمه، وقد قال رجل لابن عباس رضي الله عنه: ما تقول في
الغناء؟ أحلال هو أم حرام؟ فقال: أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة،
فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهب
فقد أفتيت نفسك.
فها هو ابن عباس رضي الله عنه قد ألزم هذا الرجل الحجة، وقضى الرجل بنفسه
على نفسه، فهو أمر بالفطرة معلوم وإن كان كتاب الله والسنة قد نطقا به
والقليل من ذلك يغني المنصف.
فاعلم يرحمك الله، أن الغناء والقرآن لا يجتمعان في القلب أبدًا، فإن
القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة والفضيلة، والغناء يأمر بذلك
فيهيج النفوس إلى الهوى ويحركها إلى كل قبيح، وإنك لا تكاد ترى أحدًا مال
إلى الغناء إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى
استماع الغناء، لو استمع لآيات من القرآن ثقلت عليه ومرت عليه كأنها الجبال
ورأى فيها الثقل والملال، ولو استمع للغناء للساعات الطوال طابت له نفسه
وزينها له الشيطان، قال تعالى: وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم
يسمعها كأن في أذنيه وقرا {لقمان: 7}. قال ابن كثير رحمه الله: أي هذا
المقبل على اللهو واللعب والطرب إذا تليت عليه الآيات القرآنية ولى عنها
وأعرض وأدبر.
ورحم الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، حيث كتب إلى مؤدب ولده: ليكن
أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط
الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني
واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء.
فالزم رحمني الله وإياك طريق الهدى والطاعة، واعلم أن من فارق سبيل
المؤمنين فقد ألزم نفسه الخسارة وحقت عليه الضلالة، فكن على درب سلفك
الصالح الذين شهد الله لهم بالرضى سائرًا ولا تبغ غيرهم- أئمة وأعلامًا
للهدى-: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل
المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ){النساء: 115}.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده... وبعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وأبان
لهم عاقبة الطاعة وأوضح لهم سبيلها، وحذرهم من المعصية ومآل أمرها، وقد علم
إبليس- عليه لعنة الله- أن مدار الأمر على القلب، فإن صح واستقام استقامت
الأعضاء على طاعة ربها، وإن اعوج وزاغ زاغت الأعضاء إلى طريق الردى، فالقلب
ملك، والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإن خبث الملك خبثت
جنوده.
واعلم رحمني الله وإياك أن مما عمت به البلوى
وأشد ما ابتليت به القلوب هو حب الغناء والموسيقى، فصار عند كثير من الناس
استماع الأغاني أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من
أوله إلى آخره لما حرك له ساكنًا، حتى إذا تليت عليه الأغاني وقرعت نغماتها
الأسماع اهتز لها القلب واضطرب، فسبحان الله من هذا المفتون الذي أضاع حظه
من القرب من الله ورضي بنصيبه من إغواء الشيطان.
وهذه الكلمات هي صيحة إنذار ونصيحة مشفق نطوف فيها معًا ننظر في الكتاب والسنة طريق الهدى وسبيل الرشاد.
ثم ننظر أقوال أهل العلم في هذا الغناء الذي هو مزمار الشيطان.
قال تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) {لقمان: 6}.
قال العلامة ابن كثير في تفسيره لهذه الآية:
يذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على
استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب كما قال ابن مسعود في قوله
تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله قال: هو الغناء
والله الذي لا إله إلا هو. يرددها ثلاث مرات.
ونقل العلامة ابن كثير أيضًا قول الحسن البصري نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير. اه.
وكذلك قوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) {الإسراء: 64}.
قال ابن كثير: قال مجاهد: باللهو والغناء، وقال القرطبي: عن ابن عباس ومجاهد: الغناء والمزامير واللهو. وقال الضحاك: صوت المزمار.
وأما السنة فقد جاء في صحيح البخاري معلقًا بصيغة الجزم أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحِرَ والحرير والخمر
والمعازف". وهو يدل دلالة واضحة على تحريم آلات العزف والطرب وذلك من وجوه:
1- قوله يستحلون، فإنه صريح بأن المذكورات ومنها المعازف هي في الشرع محرمة فيستحلها أولئك القوم.
2- قرن المعازف مع المقطوع بحرمته الزنى
والخمر ولو لم تكن محرمة ما قرنها معها، وصدق رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم فيما قاله، فقد استدار الزمان وأصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرًا،
واستحسن الناس ما حرم الله ورسوله وأنكروا على من عاب ذلك.
وروى ابن ماجه والطبراني عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ". قيل: يا رسول الله، متي؟ قال:" إذا
ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمر". صححه الألباني في السلسلة الصحيحة
(1787).
والمعازف: هي آلات اللهو المحرمة، والقينات: جمع قينة وهي المغنية.
أما الأئمة الأربعة فأقوالهم في ذلك معروفة، لكل من نظر في كتبهم وطالع كلامهم.
قال أبو حنيفة رحمه الله: الغناء حرام وهو من
الذنوب، بل صرح أصحابه بتحريم الملاهي- آلات اللهو- كلها، وصرحوا بأنه
معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع-
الغناء- فسق والتلذذ به كفر.
وأما الإمام مالك رحمه الله: فقد سُئل عما
يرخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق، وقال: إذا
اشترى رجل جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب.
وأما الشافعي رحمه الله: فقد صرح أصحابه
العارفون بمذهبه بتحريمه بل تواتر عنه أنه قال: خَلَّفتَ ببغداد شيئًا
أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن، والتغبير هو شعر
يزهد في الدنيا يغني به أحد المغنين على نغمة ضرب على طبلة ونحوها. فسبحان
الله كيف يصرح الشافعي بأن من يفعل هذا هو زنديق، فكيف لو سمع غناء اليوم
الذي سعى به أولياء الشيطان حتى أسمعوه الناس رضوا أم أبوا، وكيف لو سمع
الشافعي ما أحدثه بعض من ينتسبون إلى مذهبه اليوم وهم يقولون بجواز استماع
الغناء وعدم تحريمه وأنه شِعرٌ حسنه حسن وقبيحه قبيح يلبسون على الناس أمور
دينهم وكأنهم أتوا من كوكب آخر ولم يعرفوا الغناء الموجود اليوم.
قال الشافعي رحمه الله: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته. وقال في ذلك قول عظيمًا. فقال: هي دياثة.
وأما الإمام أحمد رحمه الله: فقد قال ابنه عبد
الله: سألت أبي عن الغناء فقال: الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني،
ثم ذكر قول الإمام مالك إنما يفعله عندنا الفساق.
فهاهم الأئمة الأربعة أئمة العلم قد اتفقوا على تحريم الغناء وصرحوا بذلك،
بل قد نقل غير واحد من علماء المسلمين الإجماع على ذلك، ورحم الله ابن
القيم إذ يقول في الغناء: فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من
علماء المسلمين، ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل
ما فيه أنه من شعار الفساق وشاربي الخمر. اه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اعلم
أنه لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة الأولى ولا بالشام ولا اليمن ولا
بمصر والمغرب والعراق وخراسان، من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من
يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية ولا بدف ولا بكف ولا بقضيب وإنما كان
هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية فلما رآه الأئمة أنكروه. اه.
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة
(1-139): ولا تغتر أيها القارئ الكريم بما قد تسمع عن بعض المشهورين اليوم
من المتفقهة من القول بإباحة آلات الطرب والموسيقى فإنهم- والله- عن تقليد
يفتون، ولهوى الناس اليوم ينصرون، ومن يقلدون؟ إنما يقلدون ابن حزم الذي
أخطأ فأباح آلات الطرب والملاهي، لأن حديث أبي مالك الأشعري لم يصح عنده،
وقد عرفت أنه صحيح قطعًا، وليت شعري ما الذي حملهم على تقليده هنا دون
الأئمة الأربعة، مع أنهم أفقه منه وأعلم وأكثر عددًا وأقوى حجة.
لو كان الحامل لهم (أي هؤلاء المفتون المشهورون) على ذلك إنما هو التحقيق
العلمي فليس لأحد عليهم من سبيل، ومعنى التحقيق العلمي كما لا يخفى أن
يتتبعوا الأحاديث كلها الواردة في هذا الباب ويدرسوا طرقها ورجالها ثم
يحكموا عليها بما تستحق من صحة أو ضعف، ثم إذا صح عندهم شيء منها درسوها من
ناحية دلالتها وفقهها وعامها وخاصها، وذلك كله حسبما تقتضيه قواعد علم
أصول الحديث وأصول الفقه، لو فعلوا ذلك لم يستطع أحد انتقادهم ولكانوا
مأجورين، ولكنهم والله- لا يصنعون شيئًا من ذلك، ولكنهم إذا عرضت لهم مسألة
نظروا في أقوال العلماء فيها، ثم أخذوا ما هو الأيسر أو الأقرب إلى تحقيق
المصلحة زعموا، دون أن ينظروا موافقة ذلك للدليل من الكتاب والسنة، وكم
شرعوا للناس- بهذه الطريقة- أمورًا باسم الشريعة الإسلامية، يبرأ الإسلام
منها- وإلى الله المشتكى.
فاحرص أيها المسلم على أن تعرف إسلامك من كتاب ربك وسنة نبيك ولا تقل قال
فلان فإن الحق لا يعرف بالرجال بل اعرف الحق تعرف الرجال. اه.
وقال الألباني أيضًا: ( ردًا على قول من قال
ولا بأس بأن يصحب الغناء الموسيقى غير المثيرة). وقال القيد نظري غير عملي
ولا يمكن ضبطه لأن ما يثير الغريزة يختلف باختلاف الأمزجة ذكورة وأنوثة،
شيخوخة وفتوة، وحرارة وبرودة كما لا يخفى على اللبيب. اه {تحريم الطرب ص7}.
فها هي أقوال الأئمة ناطقة بالحق ناصحة لعباد الله، ولو تأمل متأمل في هذا
الغناء الذي قرع أسماعهم فنطقوا فيه بهذا المقال وقسته على غناء اليوم
لعلمت علم اليقين حكمه، وقد قال رجل لابن عباس رضي الله عنه: ما تقول في
الغناء؟ أحلال هو أم حرام؟ فقال: أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة،
فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهب
فقد أفتيت نفسك.
فها هو ابن عباس رضي الله عنه قد ألزم هذا الرجل الحجة، وقضى الرجل بنفسه
على نفسه، فهو أمر بالفطرة معلوم وإن كان كتاب الله والسنة قد نطقا به
والقليل من ذلك يغني المنصف.
فاعلم يرحمك الله، أن الغناء والقرآن لا يجتمعان في القلب أبدًا، فإن
القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة والفضيلة، والغناء يأمر بذلك
فيهيج النفوس إلى الهوى ويحركها إلى كل قبيح، وإنك لا تكاد ترى أحدًا مال
إلى الغناء إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى
استماع الغناء، لو استمع لآيات من القرآن ثقلت عليه ومرت عليه كأنها الجبال
ورأى فيها الثقل والملال، ولو استمع للغناء للساعات الطوال طابت له نفسه
وزينها له الشيطان، قال تعالى: وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم
يسمعها كأن في أذنيه وقرا {لقمان: 7}. قال ابن كثير رحمه الله: أي هذا
المقبل على اللهو واللعب والطرب إذا تليت عليه الآيات القرآنية ولى عنها
وأعرض وأدبر.
ورحم الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، حيث كتب إلى مؤدب ولده: ليكن
أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط
الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني
واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء.
فالزم رحمني الله وإياك طريق الهدى والطاعة، واعلم أن من فارق سبيل
المؤمنين فقد ألزم نفسه الخسارة وحقت عليه الضلالة، فكن على درب سلفك
الصالح الذين شهد الله لهم بالرضى سائرًا ولا تبغ غيرهم- أئمة وأعلامًا
للهدى-: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل
المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ){النساء: 115}.